Skip to main content

عن حماية المستهلك

بقلم د. سليم سيرجيو


بعض الأيام الفائتة ركّز العالم على موضوع حقوق المستهلك وحمايته وأعتقد أنّه موضوع مهمّ جدًّا بسبب الأساس المنطقي الذي يقوم عليه. حيث إنّ مفهوم المستهلك — وحمايته —  هو من أهمّ المفاهيم في المجتمعات المتطوّرة في عصر العولمة الإقتصادية. إنّ النظرة على حقوق المستهلك كشيء يستحق الحماية مرتبطة بالثقافة الديمقراطية وأهمية المواطنة الحديثة. إضافةً لتلك النقطة، يمكننا أن نقول إنّه يعتبر مثالًا واضحًا من التغييرات الجوهريّة في نمط التفكير في القرنين السابقين.
مع ولادة الديمقراطية الحديثة وتطوّر ثقافتها قام الناس بإعادة رسم العلاقات الإجتماعية، خصوصًا بما يرتبط بالسلطة والتأثير السياسي. تجدر الإشارة إلى أنّ السلطة يجب أن تكون منظومة متكاملة السياق. في معظم المجتمعات كانت السلطة تعتمد على عدد  من العوامل، مثلًا على ملكية الأراضي أو القوة العسكرية أو إمتلاك رأس مال كبير أو التأثير الديني والأيديولوجي. في سلسلة السلطة هذه صار الفرد أعزلًا تحت رحمة أصحاب السلطة والتأثير الإجتماعي. قبل إنشاء الأنظمة الديمقراطية الحديثة، لم تتكوّن المجتمعات من المواطنين الذين ساهموا في كلّ أبعاد العيش على قدم المساواة، بل تكوّنت من القادة وملاك الأراضي والجيوش والتجّار المؤثرين من ناحيةٍ ومن الفلاحين والعمّال والفقراء والخدم والعبيد من ناحيةٍ أخرى. ولم تتمتع هذه المجموعات بذات الحقوق أو بنفس الإمكانية خصوصًا إذا تعلق الأمر بأفعال أصحاب السلطة والنفوذ.
من الواضح أنّ الفقه الإسلامي عيّن حقوقًا واضحةً للطرفين في كلّ معاملة، ومنها ما يسمّى الآن حقوق المستهلكين. مع ذلك علينا الإعتراف أيضًا بأنّ الفكر الإسلامي لدى عدد كبير من الفقهاء والمفكرين لم يبتعد عن النظام الإجتماعي المعروف في مجتمع رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم). نتيجة لذلك كانت الحاجة للتفاعُل مع الفكر غير الإسلامي لتوسيع نظرته ولتحدّي بعض الأفكار والعادات التي كانت مألوفة في المجتمع النبويّ. نرى أمثلة من هذه العملية عندما انتقل مركز الخلافة من الحجاز إلى دمشق لدى العرب الروميين والمسيحين، وإلى بغداد لدى العرب الآخرين والفرس واليهود والأتراك والهنود.
بظهور الفكر الديمقراطي الحديث ظهر أيضًا "الحقّ أن تكون لكلّ مرء حقوق عامّة وخاصّة بحكم القانون نفسه وليس بحكم القوة أو رأس المال". بعبارة أخرى، بفضل الفكر الديمقراطي صار الحاكم والقاضي والتاجر والعسكري والفلاح والعامل والخادم يشكّلون الإطار السياسي على قدم المساواة. بل كلّهم أصبحوا مواطنين ولم يعد الوطن ملكية للحاكم. أما الوطن في النظام الديمقراطي فهو للمواطنين والحاكم أحد أبرزهم — أو على الأقلّ هو كذلك على المستوى النظري. لكن لم يكن تطوّر الديمقراطية كاملًا لأنّه لفترة طويلة لم يكن للنساء حقوق متساوية مع الرجال. حيث إنّه قبل القرن العشرين، لم تكن المواطنة الكاملة إلا بيد الذكور. من المعروف أنّه في بعض المجتمعات ما زال القانون يفضّل الرجال على النساء بالنسبة لبعض الحقوق، مثلًا من حيث نقل الجنسية أو مبلغ الراتب أو حقّ قيادة السيارة.
إنّ أحد أكبر التغييرات التي رافقت الفكر الديمقراطي هي أنّ العلاقات القانونية بين المواطنين ليست قائمة على رأس مال أو السمعة الإجتماعية أو الجنس، وهذا هو جزء جوهري مّما يُدْعى "سيادة القانون". كذلك فإنه، من جهة نظر المواطنة، تُعتبر الدولة كواقع عامّ ومشترك؛ والعلاقات بين أعضائها تتأسس على القانون الذي يقوم بتغليف العقد الاجتماعيّ والأمانة المتبادلة بين الجميع. لذلك أصبحت مظاهر القانون لا تحكم الشعب فقط، لكن القادة أيضًا. نتيجة لذلك، فإنّ قانون المجتمع لا يفوق القوى العاملة فقط، لكنّه يفوق الحكومة وملاك الأراضي والشركات والتجّار وأصحاب الجاه المؤثرين أيضًا.
عندما نتكلّم عن حقوق المستهلك نفترض أنّ هناك نظامًا يجاوز صاحب السلطة والقوة المالية. ونفترض أيضًا أنّ  التقيد بأحكام هذا النظام يكون من المفروض على الجميع بسبب "العقد الإجتماعي" الذي تأسس عليه  تنظيم المجتمع من خلال المعاقبة على القانون الأساسي أو الدستور.  حيث إنّ ولادة الديمقراطية  مثّلت نهاية المبدأ أنّ "القوة فوق الحق".
من المفيد أن نفهم الربط بين العقلية الديمقراطية والعقلية التي تهتمّ بحماية حقوق المستهلك. على سبيل المثال، أليس الفساد في السياسة غالبًا مرتبطًا بالفساد الإقتصادي، والعكس صحيح؟ إننا نرى أمثلة على هذا حتى في الدول التي تتظاهر أنّها تكون أكبر المدافعين عن الديمقراطية. بعبارة أخرى، عندما تكون سيادة القانون حقيقةً في حياة المجتمع، فهي تدعم صحة المجتمع والنظام الديمقراطي والعلاقات السياسية والتجارية فيه.
إذن فلننتبه جيدًا. ليس الفساد ضد المستهلك  بعيدًا عنّا. حتى أنّي  لدي خبرة منه وفي معظم المرّات لا يكون  الفاسد شخصًا قويًّا ذا نفوذ ، بل رجلًا يُعتبر فقيرًا، غالبًا أحد العمّال في إحدى المناطق الصناعية. وفي هذا تحذير لنا وحافز للتحسّن. حيث إنّ إحدى الميزات للإقتصادات الخليجية هي نظام الكفالة. وتِبعًا لذلك، ليس من الممكن أن يظهر الفساد كبيراً كان أو صغيراً دون أن يكون المواطنون مرتبطين بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالفساد. وذلك لأنّه لا يمكن الحصول على الترخيص للإقامة من قبل الأجانب  ومشاركتهم في الإقتصاد والتجارة إلا بحكم تقديم ـطلب تأشيرة لهم من طرف المواطن أو المواطنة. نتيجة لذلك، فإن جميع خيوط حالات الفساد، سواء كانت في شركة دُولية أو في ورشة صغيرة، تقود إلى الإرتباط القانوني بين الكفلاء والأجانب. بطبيعة الحال، لا يعني هذا أنّ المواطنين يشاركون في إرتكاب الفساد، لكن لم تنشأ الضوابط اللازمة للتأكد من أنّ الفساد لا يرتكب  بأسمائهم أو تحت مراقبتهم أو من  وراء ظهورهم.


معظمنا سيوافق على أنّه في كلّ يوم  هناك آلاف المستهلكين من بين المواطنين والمقيمين يقعون فريسة لأشخاص قد نصفهم كمخادعين. لذلك فإنّه من المهم أنّ ندرك بأنّ حماية حقوق المستهلك ومكافحة الفساد ضده في السلطنة  هي عملية واحدة. إضافةً لذلك، هذه العملية لا تخصّ الحكومة على المستوى العامّ فقط، لكنّها تخصّ العموم  على المستوى الجزئي أيضًا. علينا كمستهلكين وككفلاء وكتجّار فرض حماية المستهلك وبهذه الطريقة سنحمي الثقافة الديمقراطية أيضًا التي من دونها يصعب علينا الدفاع عن حقوق المستهلك ضد قوة الفاسدين بغض النظر عن حجمها.