Skip to main content

الكليات ومراكز التعليم والتدريب: أهميتها ومهمتنا

بقلم د. سليم سيرجيو

قبل عدة أسابيع، ركّز مجلس الشورى على مراجعة التعليم العالي والمهني في سلطنة عُمان. ليس هناك شكّ في أهمية هذا الموضوع، خصوصًا في المؤسسات الحكومية، حيث إنّه يستحق إعادة النظر وتحليل كيفية الإستثمار فيها. وذلك لأنّ الكليات ومراكز التعليم والتدريب مهمّة جدًا في النظام والتخطيط السياسي والإجتماعي لكل بلد في العالم.
أولا، تعتمد الإقتصادات والثقافة العالمية الحالية على التكنولوجيا التى ليست من الممكن لها أن تزدهر بدون العلم والمهارات المتخصّصة. لا نحتاج إلى إقناع بأننا لم نعد نعيش في الماضي حيث الجماعات كانوا يلبّون حاجاتهم ويحقّقون طموحاتهم عن طريق تبادُلِ السلع أو بيع الخضار والحبوب على المستوى المحلي أو تربيةِ الحيوانات التقليدية. لقد تغيّر العالم ومعه المجتمع في السلطنة أيضا، خصوصًا نتيجةً للعَوْلَمة والإقتصاد النفطي. في العصر الحاضر، يرغب معظمنا في سيارات فارهة وشبكة الإنترنت السريع والرعاية الصحية الحديثة والفرص المتنوّعة للترفيه والترويح عن أنفسنا والعديد من الأشياء والأجهزة والإمكانيات الأخرى. لكن لن نستطيع تحقيق هذه الحاجات والرغبات بغير التعليم العِلمي والمهارات المهنية الجادّة. وهذه هي أهداف وجود الكليات ومراكز التعليم والتدريب؛ فيها يعكف الخبراء والمتخصصون على أسُس الحياة الحديثة.
ثانيا، لا تستحق الكليات ومراكز التعليم والتدريب الإهتمام الإجتماعي والسياسي فقط لأنّها تكلّف الكثير من أموال السلطنة، ولكنّها هي مهمة أيضا لأنها هي البيئة المناسبة لكي يتمّ التعاون بين المعلمين والطلبة والمتدرّبين.
ثالثا، انعكست حياة المجتمع على الكليات ومراكز التعليم بشكل واقع. حيث تصبح فيها طريقة العمل والأفكار العقلية والإشكاليات الموجودة ضمن جزء كبير من المجتمع، وأيضا ما يطمحون له. بعبارة أخرى،  هذه المؤسسات تُظهر أعراض الشفافية وتطبيق مبدء الجدارة والإبتكار والنهج المنضبط والتواصلية والإبداعية الموجودة لدى الشرائح والقطاعات من المجتمع الذي تشارك فيه في الكليات والمراكز. وتعتبر الكليات ومراكز التعليم والتدريب هي مراة تعكس نواحي المجتمع المدنية والحكومية.
رابعا، يتواجد التعليم المختلط في هذه المؤسسات مرة ثانية بعد إنفصال البنات والشباب لمدة سنوات في المدارس. في هذه البيئة الواقعية يستطيع الشباب والبنات تعلّم الأخلاق. لا شك إنّ هذا دور مهمّ لمؤسسات التعليم العالي والمهني. أنها تقدّم موقعًا قائمًا على الإحترام المتبادل للبعض وسعي لتحقيق حسن الخلق.
خامسا، قد جاء الوقت المناسب لتعزيز مسؤوليةِ المواطنين تجاه السلطنة ولزيادة إلتزامِهم لنجاحها. كانت السلطنة لفترة طويلة تستند في تطويرها على ورؤية جلالة السلطان المستنير (حفظه الله ورعاه) والولاء المستمر والمثالي من القوات المسلحة للنظام الدستوري للدولة والدعم الضمني من القوى الأجنبية وعائدات النفط وخبرات القوى العاملة الأجنبية واليد العاملة الرخيصة من الخارج. إضافة لهذا، قد لعب بعض العمانيين أدوارَهم الهامّة أيضا من حيث نظرتهم الأكثر عالمية ومعرفتهم ومهاراتهم. لذلك جزت السنين جهودهم وتبصرهم خيرا وإزدهارًا. لكن في الوقت الحاضر، الأمانة لبناء الوطن تقع على عاتق كل مواطن ومواطنة وهذا يشدّد أهمية الكليات ومراكز التعليم والتدريب لأنهم يواجهون نظام الجدارة الذي هو من الصفات الأساسية للدول القومية الحديثة والناجحة.
نتيجة له وانطلاقًا من إحترام الحقيقة والتواضع أمام الله، يجب حمد الله على رزقه سبحانه وتعالى وإدراك التاريخ والشّكرُ لجميع هؤلاء المواطنين والأجانب الذين بنوا الأسُس للتنمية والرفاهية التي نتمتع بها جميعًا. قد أصبحت الآن الكليات ومراكز التعليم والتعلم المواقع المناسبة للبناء على الماضي وللنمو في المسؤولية المدنية لدى المواطنين.
سادسا، أما الأجيال الشابّة فهم يمثّلون آمال الوطن والعائلات والمجتمع، على الخصوص في هذه المنطقة من العالم. وحينما فضّلت بعض البلدان إنضمام الشباب إلى الجيش كإسترتتيجية أو هندسة إجتماعية، فأختارت السلطنة إدراجهم في الكليات والمراكز. وأعتقد أنّ هذا القرار كان حكيما جدًا. حتى في الحالات حيث إنّ بعض الطلاب والطالبات ليسوا مناسبين للتعليم العالي، لا شكّ في أنّهم يتركون الكليات والمراكز أفضل من السابق من حيث تقويم المعرفة والقدرة. إضافة له، بينما يدرس الطلبة، لا يزال المجتمع يعكف على خلق فرص العمل لهم.
سابعا، قد أصبحت عُمان دولة حديثة ومتطورة، وفي هذا المقام من تاريخها ستعتمد السلطنة على قرارات أبنائها وبناتها وعلى جودة أداءهم في تطويرها. لكن طالما أنّ البلد لا يمكنه الإعتماد على مواطنيه بسبب عدة العوامل لدى جزء من السكّان، خصوصًا لدى الأجيال الشابّة، مثل نقص الخبرة المهنية أو الحس الوطني الضعيف أو الرغبة الناقصة في تقديم التضحيات من أجل الصالح العام أو عدم الإهتمام بالتطوّر المهني من أجل الإمتياز الشخصي وليس من أجل الراتب فقط أو الإطباع بأن ثروة السلطنة يتمّ توزيعها بشكل عادل، سيقوم مستقبل عُمان على أعمدة من الرمال. ومع ذلك، قد فهم الكثير من العُمانيين هذا الوضع وبدؤوا يأخذون زمام المستقبل في أيديهم.
لقد تمت إنجازات كثيرة في قطاع التعليم في عُمان. ما حققته الحكومة في 46 عاما لم يحدث في أماكن أخرى في مئات السنين. تقريبا الآن كل الشباب العماني يعرف الإنجليزية بما فيه الكفاية على العمل في الظروف المختلفة. وقد مُنِحت المرأة العمانية فرص عديدة للدراسة ولممارسة المهن، وهنّ حصلن بكل إخلاص على هذه الفرص. لا شك في أنّ إيمان الحكومة بقيمة التعليم جدير بالثناء للغاية. وبسبب هذه القناعة، يجب علينا تحسين ما نقوم به في الكليات والمراكز. في ضوء أهميّة الكليات ومراكز التعليم والتدريب والدور الإجتماعي الرئيسي الذي تلعبه، ينبغي على الجميع تحسينها كجماعات متعلّمة وبيئات التقدّم الإجتماعي والشخصي. يجب أننا نولّد فيها الإمكانيات العديدة كحاضنات المستقبل الجديد. ولذلك لا يجب الإكتفاء بما وصلنا إليه. حيث إنّ الكليات والمراكز ما زالت بحاجة إلى التحسينات والتطوّر.
أول أمر لا بدّ منه هو تحسين التواصل بين المخططين والإداريين والمحاضرين والطلاب وممثّلي قطاع العمل والصناعة. يجب أن نتابع جهودنا في ضمان التطابُق بين المناهج الدراسية والمصادر الدراسية ومعايير التقييم والامتحانات، وبين إحتياجات أرباب العمل وقدرات ومعرفة وتوقّعات وتطلعات الطلاب، وبين نوع لغة التعليم ومستوى إستخدامها في التعليم وفي العمل، وبين المرافق في حرم الكليات والمراكز. حيث إنّ جزء كبير من الإشكاليات الحالية ترجع إلى فقر الحوار الحقيقي والفعّال بين كل المستويات المرتبطة بالتعليم والتدريب.
الأمر الثاني المحتاج للتحسين هو قضية الشفافية. السرية غالبًا ما تثير الشائعات والترقب. عندما لا يعرف الناس ما يحدث حولهم، فمن  الممكن أن يتصوّروا ما يخالف الواقع. إضافةً له, إنّه من الصعب عليهم أن يشعروا بالتقدير.
الأمر الرابع يرتبط بالحاجة لزيادة المرونة لتطوير ملف التعريف المؤسسي دون حدود التركيبات السكانية المختلفة والإحتياجات والإمكانيات من الكليات اللأخرى. لا توصي المركزية الجامدة نفسها كوسيلة للتعبير عن الإبداع والابتكار. على العكس من ذلك، يمكن أن تصبح مقيّدة.
الأمر الخامس الذي يحتاج للتحسين هو زيادة التخصصات المتاحة. يجب على الطلبة أن يستعدوا للتطوّر للوظائف التي لم تكُن موجودة حتى الآن وعلى الكليات والمراكز مساعدتهم وتأهيلهم بما يتناسب وإحتياج سوق العمل.
لن تتحسّن الكليات والمراكز مع معايير التقييم المنخفضة التي تعزّز عقلية الإستحقاق دون جدارة التي ترى الشهادات كأنها حقّ غير قائم على الجهد والأداء. علينا أن لا نقلّل من قدرات ومهارات طلابنا الذين بإمكانهم الوصول إلى جميع الأهداف والصعود على سُلّم النجاح. لأنّ الرداءة في التعليم تولّد المهنيين المتوسطين، ونتيجةً لذلك فإنّ سوق العمل لا يزال يعتمد إلى حد كبير على العمالة الوافدة.

لذلك، من أجل تحسين الجودة والخدمة التي تتمكّن من تقديمها الكليات ومراكز التعليم والتدريب، يجب علينا إعادة إكتشاف مقصد الدراسة والمواطنة والإقامة في السلطنة ليس كحقّ فقط ولكن كمهمة أيضا. لأنّ هذه الأمور ليست مجرّد حقٍّ سلبيٍّ، بل هي خدمة فعليّة مفروضة علينا. طالما نسكن في عُمان، أرضها ومجتمعها تعطينا الموقع حيث نعيش ونعمل أمام الله. قصد حياتنا هو التطوّر عن طريق القيام بالخير أينما نكون موجودين.